سورة التكوير - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التكوير)


        


{إِذَا الشمس كُوّرَتْ} أي لُفَّتْ من كَوَّرتَ العمامةَ إذا لففتَها، على أَنَّ المرادَ بذلكَ إمَّا رفعُها وإزالتُها منْ مقرِّها فإنَّ الثوبَ إذا أُريدَ رفعُهُ يُلفُّ لفاً ويُطْوى، ونحُوه قولُه تعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِى السماء} وإمَّا لَفُّ ضوئِها المنبسطِ في الآفاقِ المُنتشرِ في الأقطارِ، على أنَّه عبارةٌ عنْ إزالتها والذهابِ بها بحكمِ استلزامِ زوالِ اللازمِ لزوالِ الملزومِ أو ألقيتْ عن فلكها كَما وُصفتِ النجومُ بالانكدارِ من طعنَهُ فكوَّرَهُ إذا ألقاهُ عَلى الأرضِ. وعن أبي صالحِ كُورتْ نُكِّستْ وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا تكويرُهُا إدخالُها في العرشِ. ومدارُ التركيبِ على الإدارةِ والجمعِ. وارتفاعُ الشمسِ على أنَّه فاعلٌ لفعلٍ مضمرٍ يُفسِّرُه المذكورُ وعندَ البعضِ عَلى الابتداءِ. {وَإِذَا النجوم انكدرت} أي انقضَّتْ وَقيلَ: تناثرتْ وَتساقطتْ. رُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنَّه لا يَبْقَى يومئذٍ نجمٌ إلا سقطَ في الأرضِ، وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ أنَّ النُّجومَ قناديلُ معلقةٌ بينَ السماءِ والأرضِ بسلاسلَ منْ نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نورٍ فإذَا ماتَ منْ في السمواتِ ومنْ في الأرضِ تساقطتْ من أيديهم وقيلَ: انكدارُها انطماسُ نُورِها ويُروَى أنَّ الشمسَ والنجومَ تُطرحُ في جهنَم ليراهَا مَنْ عبدَها كما قالَ: إنكُم وما تعبدونَ من دونِ الله حصبُ جهنَم {وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ} أيْ عنْ أماكنِها بالرجفة الحاصلةِ لا في الجوِّ فإنَّ ذلكَ بعدَ النفخة الثانيةِ.


{وَإِذَا العشار} جمعُ عُشَراءَ وهيَ الناقةُ التي أتى على حملِها عشرةُ أشهرٍ، وهو اسمُها إلى أنْ تضعَ لتمامِ السنةِ وهي أنفسُ ما يكونُ عندَ أهلِها وأعزُّها عليهمْ. {عُطّلَتْ} تُرِكتْ مهملةً لاشتغالِ أهلِها بأنفسِهم، وقيلَ العشارُ السحائبُ فإنَّ العربَ تُشبهها بالحامل ومنهُ قولُه تعالىَ: {فالحاملات وِقْراً} وتعطيلُها عدمُ إمطارِها وقرئ: {عُطِلَتْ} بالتخفيفِ. {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} أي جُمعتْ من كلِّ جانبٍ وقيلَ: بُعثتْ للقصاصِ. قالَ قتادةُ يُحشرُ كلُّ شيءٍ حتَّى الذبابُ للقصاصِ فإذَا قُضِيَ بينَها رُدَّتْ تُراباً فلا يَبقْى منها إلا ما فيهِ سرورٌ لبني آدمَ وإعجابٌ بصورتِه كالطاووسِ ونحوِه. وقرئ: {حُشِّرَتْ} بالتشديدِ {وَإِذَا البحار سُجّرَتْ} أي أُحميَتْ أو مُلئتْ بتفجيرِ بعضِها إلى بعضٍ حتَّى تعودَ بحراً واحداً. من سجَّر التنورَ إذا ملأَهُ بالحطبِ ليحميَهُ وقيلَ: مُلئتْ نيراناً تضطرمُ بهَا لتعذيب أهلِ النارِ، وعن الحسنِ يذهبُ ماؤُها حتَّى لا يبقى فيها قطرةٌ. وقرئ: {سُجِرَتْ} بالتخفيفِ.
{وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ} أي قُرِنتْ بأجسادها أو قُرِنتْ كلُّ نفسٍ بشكلِها أو بكتابِها أو بعملِها أو نفوسُ المؤمنينَ بالحُورِ، ونفوسُ الكافرينَ بالشياطين {وَإِذَا الموءدة} أي المدفونة حيةً وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوقِ العارِ بهم من أجلهنَّ، قيلَ: كانَ الرجلُ منهُم إذَا وُلِدتْ له بنتٌ ألبسها جُبَّةً من صُوفٍ أو شَعَرٍ حَتَّى إذَا بلغتْ ستَّ سنينَ ذهبَ بها إلى الصحراءِ وقد حفرَ لها حُفرةً فيُلقيها فيهَا ويُهيلُ عليها الترابَ وقيلَ: كانتِ الحاملُ إذا أقربتْ حفرتْ حُفرةً فتمخضتْ على رأسِ الحُفرةِ فإذا ولدتْ بنتاً رمتْ بهَا وإنْ ولدتْ ابناً حبستْهُ {سُئِلَتْ * بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} توجيهُ السؤالِ إليهَا لتسليتِها وإظهارِ كمالِ الغيظِ والسَّخطِ لوائدها وإسقاطِه عن درجةِ الخطابِ والمبالغةِ في تبكيتِه كما في قولِه تعالى: {قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن} وقرئ: {سَأَلتْ} أي خاصمتْ أو سألتِ الله تعالَى أو قاتِلَها وإنما قيلَ: قُتلتْ لما أنَّ الكلامَ إخبارٌ عنها لا حكايةٌ لما خُوطبتْ بهِ حينَ سُئلتْ ليقالَ قُتِلْتِ على الخطابِ ولا حكايةٌ لكلامِها حينَ سَألتْ ليقالَ قُتِلْتُ على الحكايةِ عن نفِسها. وقد قرئ كذلكَ وبالتشديدِ أيضاً وعن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما أنه سُئِلَ عن أطفالِ المشركينَ فقالَ لا يُعذَّبون واحتجَّ بهذهِ الآيةِ.


{وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} أيْ صحفُ الأعمالِ فإنَّها تُطوى عندَ الموتِ وتنشرُ عند الحسابِ. عنِ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قالَ: «يُحشرُ النَّاسُ عُراةً حُفاةً» فقالتْ أمُّ سلمةَ فكيفَ بالنساءِ فقالَ: «شُغلَ الناسُ يا أُمَّ سلمةَ» قالتْ وما شغلَهُم قالَ: «نشرُ الصحفِ فيها مثاقيلُ الذرِّ ومثاقيلُ الخردلِ». وقيلَ نُشرتْ أي فُرِّقتْ بينَ أصحابِها، وعن مَرْثَدِ بنِ وَدَاعةَ: إذَا كانَ يومُ القيامةِ تطايرتِ الصحفُ من تحت العرشِ فتقعُ صحيفةُ المؤمنِ في يدِه في جنةٍ عاليةٍ وتقعُ صحيفةُ الكافرِ في يده في سَمومٍ وحميمٍ أي مكتوبٌ فيها ذلكَ وهيَ صُحفٌ غيرُ صحفِ الأعمالِ. {وَإِذَا السماء كُشِطَتْ} قُطعتْ وأُزيلتْ كما يُكشطُ الإهابُ عن الذبيحةِ والغطاءُ عن الشيءِ المستورِ بهِ وقرئ: {قُشطتْ}، واعتقابُ الكافِ والقافِ غيرُ عزيز كالكافُور والقافُورِ. {وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ} أي أُوقدتْ إيقاداً شديداً قيلَ سَعَّرهَا غضبُ الله عزَّ وجلَّ وخَطَايَا بني آدمَ وقرئ: {سُعِرَتْ} بالتَّخفيفِ. {وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} أي قُرَّبتْ من المتقينَ كقولِه تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} قيلَ: هذهِ اثنتا عشرةَ خصلةً ستٌّ منها في الدُّنيا أي فيمَا بينَ النفختينِ وهُنَّ من أول السورةِ إلى قوله تعالى: {وَإِذَا البحار سُجّرَتْ} على أنَّ المرادَ بحشرِ الوحوشِ جمعُها من كلِّ ناحيةٍ لا بعثُها للقصاصِ وستٌّ في الآخرةِ أي بعدَ النفخةِ الثانيةِ. وقولُه تعالَى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} جوابُ إذَا على أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ ممتدٌّ يسعَ ما في سباقها وسباقِ ما عُطفَ عليها من الخصالِ، مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ لكنْ لا بمعْنى أنها تعلمُ ما تعلُم في كلِّ جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ الوقتِ المديدِ، أو عند وقوعِ داهيةٍ من تلكَ الدواهِي بلْ عند نشرِ الصحفِ إلا أنَّه لما كانَ بعضُ تلك الدَّواهِي من مباديهِ وبعضُها من روادفِه نُسبَ علمُها بذلكَ إلى زمانِ وقوعِ كُلِّها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال، والمرادُ بمَا أَحضرتْ أعمالُها من الخيرِ والشرِّ وبحضورِها إما حضورُ صحائِفها كما يعربُ عنه نشرُها وإما حضورُ أنفسِها على ما قالُوا من أنَّ الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرزُ في النشأة الآخرةِ بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسنِ والقُبحِ على كيفياتٍ مخصوصةٍ وهيئاتٍ مُعينةٍ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسمُ هنالكَ وتتصورُ بصورةِ النَّارِ. وعَلى ذلكَ حُملَ قولُه تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وقولُه تعالَى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} وكذا قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حقِّ من يشربُ من آنيةِ الذهبِ والفضَّةِ «إنما يُجرجرُ في بطنِه نارَ جهنمَ» ولا بُعدَ في ذلكَ، ألا يرى أن العلمَ يظهرُ في عالمِ المثالِ على صُورةِ اللبنِ كما لا يَخْفى على مَنْ له خبرةٌ بأحوالِ الحضرات الخمس وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحةِ على صورٍ حسنةٍ وبالأعمال السيئةِ على صورٍ قبيحةٍ فتوضعُ في الميزان وأيَّاً ما كانَ فإسنادُ إحضارِها إلى النفسِ مَعَ أنَّها تحضرُ بأمرِ الله تعالى كما ينطقُ به قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} الآيةَ لأنَّها لمَّا عمِلَتها في الدُّنيا فكأنَّها أحضرتْهَا في الموقفِ ومَعْنى علمِها بها حينئذٍ أنها تُشاهدُها على ما هيَ عليه في الحقيقة فإنْ كانتْ صالحةً تشاهدُها على صور أحسنَ ممَّا كانتْ تشاهدها عليه في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة وإن كانت سيئةً تشاهدُها على خلاف ما كانتْ تشاهدُها عليه ههُنا لأنها كانتْ مزينةً لها موافقةً لهواهَا. وتنكيرُ النفسِ المفيدُ لثبوتِ العلمِ المذكورِ لفردٍ من النفوسِ أو لبعضِ منها للإيذانِ بأن ثبوتَهُ لجميعِ أفرادِها قاطبةً من الظهورِ والوضوحِ بحيثُ لا يكادُ يحومُ حولَهُ شائبةُ اشتباهٍ قطعاً يعرفُه كلُّ أحدٍ ولَو جيءَ بعبارةٍ تدلُّ على خلافِه وللرمزِ إلى أنَّ تلكَ النفوسَ العالمةَ بما ذُكِرَ مع توفرِ أفرادِها وتكثرِ أعدادِها مما يُستقلُّ بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ الذي أشير إلى بعض بدائعِ شؤونِه المنبئةِ عن عظمِ سُلطانِه، وأما مَا قيلَ منْ أنَّ هذَا من قبيلِ عكسِ كلامِهم الذي يقصدونَ به الإفراطَ فيما يُعكسُ عنْهُ وتمثيله بقولِه تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} وبقول منْ قالَ:
قَدْ أتركَ القَرْنَ مُصفرَّاً أناملُهُ ***
وبقولِ من قالَ حينَ سُئلَ عن عددِ فرسانِه: رُبّ فارسٍ عندِي، وعندُه المقانبُ، قاصداً بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانِه وإظهارَ براءتِه من التزيد وأنَّه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً أنْ يتزيدَ فمن لوائحِ النظرِ الجليلِ إلا أنَّ الكلامَ المعكوسَ عنْهُ فيما ذُكِرَ من الأمثلةِ مما يقبلُ الإفراطَ والتماديَ فيه فإنَّه في الأولِ كثيراً ما يودُّ وفي الثانِي كثيراً ما أتركُ وفي الثالث كثيرٌ من الفرسانِ وكلُّ واحدٍ من ذلكَ قابلٌ للإفراطِ والمبالغةِ فيهِ لعدمِ انحصارِ مراتبِ الكثرةِ وقدْ قُصدَ بعكسِه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فُصِّل أما فيما نحن فيه فالكلام الذي عكس عنْهُ عملتْ كلُّ نفسٍ ما أحضرتْ كما صرَّحَ به القائلُ وليسَ فيه إمكانُ التكثيرِ حتَّى يُقصدَ بعكسِه المبالغةُ والتَّمادِي فيهِ وإنما الذي يمكنُ فيه من المبالغةِ ما ذكرناهُ فتأملْ. ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للإشعارِ بأنَّه إذا علمتْ حينئذٍ نفسٌ من النفوسِ ما أحضرتْ وجبَ على كلِّ نفسٍ إصلاحُ عملِها مخافةَ أنْ تكونَ هيَ تلكَ التي علمتْ ما أحضرتْ فكيفَ وكلُّ نفسٍ تعلمُه على طريقةِ قولِك لمن تنصحُه لعلكَ ستندمُ على ما فعلتَ ورُبَّما ندمَ بالإنسانُ على ما فعلَ فإنك لا تقصدُ بذلكَ أنَّ ندمَهُ مرجوُّ الوجودِ لا متيقنٌ بهِ أو نادرُ الوقوعِ بلْ تريدُ أنَّ العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ يجتنبَ أمراً يُرجى فيهِ الندمُ أو قلَّماً يقعُ فيهِ فكيفَ بهِ إذَا كانَ قطعَي الوجودِ كثيرَ الوقوعِ.

1 | 2